كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله تعالى: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} أي: في الدنيا، حال الإيمان بالغيب.
{نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} أي: أحباؤكم في الدارين، للتناسب بيننا وبينكم. كما أن الشياطين أولياء الكافرين، لما بينهم من الجنسية، والمشاركة في الظلمة والكدورة. قال ابن كثير: أي: تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار: نحن كنا قرناءكم في الحياة الدنيا، نسددكم، ونوفقكم، ونحفظكم بأمر الله. وكذلك نكون معكم في الآخرة، نؤنس منكم الوحشة في القبور، وعند النفخة في الصور، ونؤمنكم يوم البعث والنشور، ونجاوزكم الصراط المستقيم، ونوصلكم إلى جنات النعيم.
وقال الرازي: معنى كونهم أولياء للمؤمنين، أن للملائكة تأثيرات في الأرواح البشرية، بالإلهامات، والمكاشفات اليقينية، كما أن للشياطين تأثيرات في الأرواح، بإلقاء الوساوس فيها، وتخييل الأباطيل إليها، وبالجملة، فكون الملائكة أولياء للأرواح الطيبة الطاهرة، حاصل من جهات كثيرة معلومة، لأرباب المكاشفات والمشاهدات. فهم يقولون: كما أن تلك الولاية كانت حاصلة في الدنيا، فهي تكون باقية في الآخرة. فإن تلك العلائق ذاتية لازمة غير قابلة للزوال. بل كأنها تصير بعد الموت أقوى وأبقى. وذلك لأن جوهر النفس من جنس الملائكة، وهي كالشعلة بالنسبة إلى الشمس، والقطرة بالنسبة إلى البحر، والتعلقات الجسمانية هي التي تحول بينها وبين الملائكة. كما قال صلى الله عليه وسلم: «لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم، لنظروا إلى ملكوت السماوات» فإذا زالت العلائق الجسمانية، والتدبيرات البدنية، فقد زال الغطاء والوطاء، فيتصل الأثر بالمؤثر، والقطرة بالبحر، والشعلة بالشمس. انتهى.
وهو مشرب صوفيّ ومنزع فلسفيّ، فيه شية من الرقة: {وَلَكُمْ فِيهَا} أي: في الآخرة: {مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ} أي: من الروح، والريحان، والنعيم المقيم: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} أي: تتمنون: {نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} أي: إكرامًا معدًا لكم، من غفور لذنوبكم، ورحيم بتفضله وتطوله.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي: لا أحد أحسن مقالًا ممن دعا الناس إلى عبادته تعالى، وكان من الصالحين المؤتمرين، والمسلمين وجوههم إليه تعالى في التوحيد.
لطائف:
الأولى- قال القاشاني: وإنما قدم الدعوة إلى الحق والتكميل؛ لكونه أشرف المراتب، ولاستلزامه الكمال العلمي والعملي، وإلا لما صحت الدعوة. انتهى.
الثانية- في الآية إشارة إلى ترغيبه صلى الله عليه وسلم في الإعراض عن المشركين، وعما كانوا يقولونه من اللغو في التنزيل، مما قصه تعالى عنهم فيما تقدم. وإرشاده إلى المواظبة على التبليغ، والدعوة، ببيان أن ذلك أحسن الطاعات ورأس العبادات، فهذا هو سر انتظام هذه الآية في إثر ما سبق. وثمة وجه آخر. وهو أن مراتب السعادات اثنان: كامل وأكمل. أما الكامل فهو أن يكتسب من الصفات الفاضلة ما لأجلها يصير كاملًا في ذاته. فإذا فرغ من هذه الدرجة، اشتغل بعدها بتكميل الناقصين.
فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] و[الأحقاف: 13]، إشارة إلى المرتبة الأولى. وهي اكتساب الأحوال التي تفيد كمال النفس في جوهرها. فإذا حصل الفراغ من هذه المرتبة، وجب الانتقال إلى المرتبة الثانية، وهي الانتقال بتكميل الناقصين، وذلك إنما يكون بدعوة الخلق إلى الدين الحق، وهو المراد من قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا} الآية.
واعلم أن من آتاه الله قريحة قوية، ونصيبًا وافيًا من العلوم الإلهية، عرف أنه لا ترتيب أحسن ولا أكمل من ترتيب آيات القرآن، أفاده الرازي.
الثالثة- يدخل في الآية كل من دعا إلى الله بطريق من الطرق المشروعة، وسبيل من السبل المأثورة؛ لأن الدعوة الصحيحة هي الدعوة النبوية، ثم ما انتهج منهجها في الصدع بالحق، وإيثاره على الخلق.
الرابعة- في الآية دليل على وجوب الدعوة إلى الله تعالى- على ما قرره الرازي- لأن الدعوة إلى الله أحسن الأعمال، وكل ما كان أحسن الأعمال، فهو واجب.
الخامسة- احتج من جوز قول: أنا مسلم. بدون تعليق على المشيئة بهذه الآية. وقال: إطلاقها يدل على أن ذلك هو الأولى، والمسألة معروفة بسطها الغزالي في الإحياء.
وللإمام ابن حزم في الفِصل تحقيق لطيف لا بأس بإيراده. قال رحمه الله: اختلف الناس في قول المسلم: أنا مؤمن. فروينا عن ابن مسعود وجماعة من أصحابه الأفاضل، ومن بعده من الفقهاء، أنه كره ذلك. وكان يقول: أنا مؤمن إن شاء الله. وقال بعضهم: آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله. وكانوا يقولون: من قال أنا مؤمن، فليقل إنه من أهل الجنة.
ثم قال ابن حزم: والقول عندنا في هذه المسألة، أن هذه صفة يعلمها المرء من نفسه. فإن كان يدري أنه مصدق بالله عز وجل، وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبكل ما أتى به عليه السلام، وأنه يقر بلسانه بكل ذلك، فواجب عليه أن يعترف بذلك. كما أمر تعالى، إذا قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] ولا نعمة أوكد، ولا أفضل، ولا أولى بالشكر، من نعمة الإسلام. فواجب عليه أن يقول: أنا مسلم قطعًا عند الله تعالى، وفي وقتي هذا. ولا فرق بين قوله: أنا مؤمن مسلم. وبين قوله: أنا أسود وأنا أبيض.
وهكذا سائر صفاته التي لا يشك فيها. وليس هذا من باب الامتداح، والتعجب في شيء؛ لأنه فرض عليه أن يحص دمه بشهادة التوحيد. قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136]، وقول ابن مسعود عندنا صحيح؛ لأن الإسلام والإيمان اسمان منقولان عن موضوعهما في اللغة، إلى جميع البر والطاعات، فإنما منع ابن مسعود من القول بأنه مسلم مؤمن، على معنى أنه مستوف لجميع الطاعات. وهذا صحيح. ومن ادعى لنفسه هذا فقد كذب بلا شك، وما منع رضي الله عنه من أن يقول المرء: إني مؤمن. بمعنى مصدق. كيف؟ وهو يقول: قل آمنت بالله ورسله. أي: صدقت. وأما من قال فقل إنك في الجنة، فالجواب أننا نقول: إن متنا على ما نحن عليه الآن، فلابد لنا من الجنة بلا شك. وبرهان ذلك أنه قد صح من نصوص القرآن، والسنة، والإجماع، أن من آمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبكل ما جاء به، ولم يأت بما هو كفر، فإنه في الجنة، إلا أننا لا ندري ما يفعل بنا في الدنيا، ولا نأمن من مكر الله تعالى، ولا إضلاله، ولا كيد الشيطان، ولا ندري ماذا نكسب غدًا، ونعوذ بالله من الخذلان. انتهى.
{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} أي: لكون الأولى من مقام العقل تجرّ صاحبها إلى الجنة ومصاحبة الملائكة. والثانية من مقام النفس تجر صاحبها إلى النار ومقارنة الشياطين: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: ادفع السيئة حيث اعترضتك، بالتي هي أحسن منها، وهي الحسنة. على أن المراد بالأحسن الزائد مطلقًا، أو بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات. وإنما عدل من مقتضى الظاهر وهو: ادفع بالحسنة، إلى الأبلغ- لأن من دفع بالأحسن هان عليه الدفع بما دونه. وهذا الكلام أبلغ في الحمل والحث على ما ذكر؛ لأنه يومئ إلى أنه مهم ينبغي الاعتناء به والسؤال عنه.
قال القاشاني: أي: إذا أمكنك دفع السيئة من عدوك بالحسنة، التي هي أحسن فلا تدفعها بالحسنة التي دونها، فكيف بالسيئة؟ فإن السيئة لا تندفع بالسيئة، بل تزيد وتعلو ارتفاع النار بالحطب. فإن قابلتها بمثلها كنت منحطًا إلى مقام النفس، متبعًا للشيطان، سالكًا طريق النار، ملقيًا لصاحبك في الأوزار، وجاعلًا له ولنفسك من جملة الأشرار، متسببًا لازدياد الشر، معرضًا عن الخير. وإن دفعتها بالحسنة، سكّنت شرارته، وأزلت عداوته، وتثبت في مقام القلب على الخير، وهديت إلى الجنة، وطردت الشيطان، وأرضيت الرحمن، وانخرطت في سلك الملكوت، ومحوت ذنب صاحبك بالندامة، ثم أشار تعالى إلى علة الأمر، وثمرته بقوله: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ} أي: صديق أو قريب: {حَمِيمٌ} أي: شديد الولاء. وأصل الحميم الماء الشديد حرارته. كنى به عن الولي المخلص في وده، لما يجد في نفسه من حرارة الحب، والشوق، والاهتمام نحو مواليه.
{وَمَا يُلَقَّاهَا} أي: هذه الخصلة الشريفة، والفضيلة العظيمة، وهي مقابلة الإساءة بالإحسان: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} أي: على تجرع الشدائد، أو على طاعته تعالى، وأمره، تخلقًا بالعلم والعفو: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي: من الخير وكمال النفس، ومن الله تعالى بالتخلق بأخلاقه، ومن الثواب وكمال العقل.
{وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي: وإما يلقين الشيطان في نفسك وسوسة من حديث النفس، إرادة حملك على مجازاة المسيء بالإساءة، والانتقام منه، فاستجر بالله واعتصم من خطواته، بالرجوع إلى جنابه تعالى، واللجأ إلى حضرته، من شره ووسوسته ونزغه. قال ابن كثير: قدمنا أن هذا المقام لا نظير له في القرآن إلا في سورة الأعراف، وهو قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 199- 200]، وفي سورة المؤمنون، وهو قوله سبحانه: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينَ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 96- 98].
{وَمِنْ آيَاتِهِ} أي: حججه تعالى على خلقه، ودلالته على وحدانيته وعظيم سلطانه.
{اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ} أي: اختلافهما، ومعاقبة كل واحد منها صاحبه: {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} أي: نورهما وإشراقهما وتقدير منازلهما، واختلاف سيرهما في سمائهما، لبقاء صلاح الكون: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ} لأنهما مسخران بتسخير خالق قادر عليهم، فهما مخلوقان: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي: تفرّدونه بالعبادة. فإن من طاعته أن تخلصوا له العبادة، ولا تشركوا في طاعته أحدًا؛ لأنها لا تنبغي لأحد سواه. تنبيه:
استدل بالآية الشيخ أبو إسحاق في المهذب على صلاة الكسوف. قال: لأنه لا صلاة تتعلق بالشمس والقمر غيرها، وأخذ من ذلك تفضيلها على صلاة الاستسقاء، لكونها في القرآن، بخلافها. كذا في الإكليل.
{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} أي: عن عبادته كبرًا وعتوًا: {فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} أي: من الملائكة.
{يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} أي: لا يملّون عبادته، لأنها قرة أعينهم، وحياة أنفسهم.
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً} أي: ساكنة لا حركة لعشب فيها، ولا نبات، ولا زرع: {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} أي: اهتزت بالنبات وتحركت بزينته، وربت بارتفاعه على سطحها، أي: صارت ربوة مرتفعة: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا} أي: هذه الأرض الدارسة، فأخرج منها النبات، وجعلها تهتز بالزرع من بعد يبسها: {لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا} أي: يميلون عن حججنا وأدلتنا، ويزيغون عنها تكذيبًا لها، وجحودًا لها: {لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} أي: لإحاطة علمه بهم، وكونه بالمرصاد لهم، فسيجزيهم.
تنبيه:
شملت الآية من بضع الكلام في الآيات على غير مواضعه، كما فسّرها ابن عباس. قال في الإكليل: ففيها الرد على من تعاطى تفسير القرآن بما لا يدل عليه جوهر اللفظ، كما يفعله الباطنية، والاتحادية، والملاحدة، وغلاة المتصوفة: {أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ} أي: بهذا القرآن: {لَمَّا جَاءهُمْ} أي: فهم هالكون. فالخبر محذوف، أو الجملة بدل من جملة: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا}: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} أي: منبع محمي عن التغيير والتبديل، وعن محاكاته بنظير.
{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (42).
{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} أي لا يتطرق إليه البطلان من جهة من الجهات.
قال القاشاني: لا من جهة الحق فيبطله بما هو أبلغ منه وأشد إحكاما في كونه حقا وصدقا. ولا من جهة الخلق فيبطلونه بالإلحاد في تأويله، ويغيرونه بالتحريف لكونه ثابتا في اللوح محفوظا من جهة الحق، كما قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9)، وفيه تمثيل لتشبيهه بشخص حمي من جميع جهاته. فلا يمكن أعداءه الوصول إليه لأنه في حصن حصين من حماية الحق المبين. هذا على أن ما بين يديه وما خلفه، كناية عن جميع الجهات. كالصباح والمساء كناية عن الزمان كله. أو المعنى: لا يتطرق إليه باطل في كل ما أخبر عنه من الأخبار الماضية والآتية. والماضية ما بين يديه، والآتية ما خلفه. أو العكس كما مر {تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} قال ابن جرير: أي هو تنزيل من عند ذي حكمة، بتدبير عباده وصرفهم فيما فيه مصالحهم، محمود على نعمه عليهم بأياديه عندهم.
{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} أي: ما يقول لك كفار قومك، إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم، من الكلمات المؤذية، والمطاعن في الكتب المنزلة؛ أي: فاصبر كما صبروا: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} أي: لذنوب التائبين إليه من ذنوبهم، بالصفح عنهم: {وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} أي: لمن أصرّ على كفره وذنوبه، ومات قبل التوبة منها.
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} أي: بينت أدلته وما فيه، بلسان نعرفه لنفهم ما فيه. قال الزمخشري: كانوا لتعنتهم يقولون: هلا نزل القرآن بلغة العجم؟ فقيل: لو كان كما يقترحون، لم يتركوا الاعتراض والتعنت، وقالوا: لولا فصلت آياته؟ أي: بينت ولخصت بلسان نفقهه: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} الهمزة همزة الإنكار، يعني: لأنكروا وقالوا: أقرآن أعجمي ورسول عربي؟ أو مرسل إليه عربي؟ والمعنى: إن آيات الله على أي: طريقة جاءتهم، وجحدوا فيها متعنتًا؛ لأن القوم غير طالبين للحق، وإنما يتعبون أهواءهم. انتهى.
قال الشهاب: والأعجمي أصله أعجم، ومعناه من لا يفهم كلامه للكنة، أو لغرابة لغته وزيدت الياء للمبالغة. كما في أحمري. ويطلق على كلامه مجازًا. لكنه اشتهر حتى ألحق بالحقيقة. وأما العجمي فالمنسوب إلى العجم. وهم مَن عدا العرب، وقد يخص بأهل فارس، ولغتهم العجمية أيضًا. فبين الأعجمي والعجمي عموم وخصوص وجهي. انتهى.
{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء} أي: وهو للمؤمنين بالغيب هداية تهديهم إلى الحق، وتبصّرهم بالمعرفة، وشفاء يزيل أمراض قلوبهم من الرذائل. كالنفاق والشك، أي: تبصّرهم بطريق النظر والعمل، فتعلمهم وتزكيهم: {وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} أي: لا يسمعونه ولا يفهمونه. بل يشتبه عليهم لاستيلاء الغفلة عليهم، وسد الغشاوات الطبيعية طرق أسماع قلوبهم وأبصارها، فلا ينفذ فيها ولا يتنبهوا بها ولا يتيقظوا: {أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} أي: مثلهم في عدم قبولهم الحق، واستماعهم له، مثل من يُصيّح به من مسافة شاطة، لا يسمع من مثلها الصوت، فلا يسمع النداء. وذلك لبعدهم عن منبع النور الذي في المطبوع: الى يدرك به الحق ويرى. وانهماكهم في ظلمات الهيولى.
قال الشهاب: وجعل النداء من مكان بعيد، تمثيلًا لعدم فهمهم وانتفاعهم بما دُعُوا له. يقال: أنت تنادى من مكان بعيد، أي: لا تفهم ما أقول. وقيل: إنه على حقيقته، وإنهم يوم القيامة ينادون كذلك، تفضيحًا لهم.